وقف إطلاق النار بغزة- مكره نتنياهو وفشل أهداف الحرب

بعد صراع دام أكثر من خمسة عشر شهرًا، تمخض اتفاق وقف إطلاق النار عن ولادة عسيرة وشاقة، وذلك بعد إصرار إسرائيلي مستمر على الرفض والمماطلة والمراوغة والأكاذيب، سعيًا لتحقيق أهدافها العدوانية بمرور الوقت. تضمنت تلك الأهداف القضاء العسكري والسلطوي على حركة حماس، واستعادة الأسرى بالقوة العسكرية.
ومع استمرار العدوان الغاشم على غزة، تطورت تلك الأهداف لتشمل تهجير الفلسطينيين بدءًا من شمال القطاع، وفقًا لما عُرف بخطة الجنرالات، فضلاً عن احتلال قطاع غزة والشروع في مشاريع استيطانية احتلالية دائمة.
مكره نتنياهو لا بطل
رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، سعى جاهدًا لإطالة أمد العدوان على غزة لتحقيق "النصر المطلق" المزعوم. استخدم نتنياهو براعته التكتيكية في إدارة المشهد، متجنبًا أي استحقاقات قد تؤدي إلى وقف العدوان. تجلى ذلك في رفضه لاتفاق وقف إطلاق النار في مايو/أيار 2024، وتجاهله لتوصية محكمة العدل الدولية في مايو/أيار 2024 التي طالبت بوقف فوري للعمليات العسكرية في مدينة رفح وفتح معبر رفح لضمان دخول المساعدات إلى قطاع غزة. كما رفض الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي 2735 الصادر في يونيو/حزيران 2024، والذي دعا إلى وقف إطلاق النار وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، فضلاً عن رفضه لاتفاق يوليو/تموز 2024 لوقف إطلاق النار الذي وافقت عليه حركة حماس ورفضه نتنياهو.
فما الذي أحدث هذا الانعطاف الدراماتيكي في المشهد، وأجبر نتنياهو على القبول؟
أولًا: دوافع انفعالية جامحة
منذ الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى، ارتكب بنيامين نتنياهو خطأ جسيمًا باتخاذ قرارات انفعالية، مدفوعة بالرغبة في الانتقام، ودون رؤية سياسية واقعية لأهداف الحرب أو مستقبل قطاع غزة. توهم نتنياهو بأنه قادر على تحقيق النصر المطلق في القطاع المحاصر منذ أكثر من 17 عامًا. أصبحت هذه الأهداف قيدًا عليه وعلى حكومته المتطرفة أمام الجمهور الإسرائيلي الذي كان مندفعًا بحماسة وغضب للانتقام من قطاع غزة بكل ما فيه، دون تمييز بين البشر والحجر والشجر، وبدعم كامل وغير محدود من إدارة الرئيس بايدن التي زودت إسرائيل بأسلحة فتاكة من مخازنها.
هذا الخطأ في اتخاذ القرار، بالإضافة إلى كونه انفعاليًا، جاء في ظل معلومات استخبارية ضئيلة عن قوة كتائب القسام والمقاومة، والاستهانة بصلابة الشعب الفلسطيني المحاصر.
ثانيًا: أداء المقاومة وصمود الشعب الأسطوري
لقد أظهرت المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب عزالدين القسام قدرات فائقة في التخطيط والتنفيذ في ميدان المعركة، وألحقت بالاحتلال خسائر اقتصادية فادحة، قدرت مبدئيًا بنحو 34 مليار دولار من قبل وزارة المالية التابعة للاحتلال، وعجز في ميزانية عام 2024 بلغ حوالي 38 مليار دولار. كما تكبد الاحتلال خسائر كبيرة في جنوده وضباطه (مقتل حوالي 891 جنديًا وضابطًا، وإصابة حوالي 13,500، 43% منهم يعانون من أمراض نفسية، وفقًا لمصادر الاحتلال)، وتدمير وإعطاب حوالي 2000 آلية ثقيلة ودبابة.
بينما تجلى الصمود الأسطوري للحاضنة الشعبية في حماية المقاومة، على الرغم من الإبادة وجرائم التطهير العرقي التي تعرضت لها (47 ألف شهيد، و110 آلاف جريح، و11 ألف مفقود)، وتدمير حوالي 70-80% من المساكن والقطاعات الخدمية.
كل هذه العوامل أفشلت مخططات التهجير القسري وأعاقت أهداف الاحتلال السياسية والعسكرية، وأكدت جميع التقديرات الاستخبارية والعسكرية الإسرائيلية والأميركية استحالة هزيمة الفلسطينيين في قطاع غزة، أو هزيمة حركة حماس التي وُصفت بأنها فكرة يستحيل القضاء عليها عسكريًا.
ثالثًا: تحول الرأي العام الإسرائيلي
عقب معركة طوفان الأقصى، اندفع الجمهور الإسرائيلي بشكل واسع نحو تأييد العدوان على قطاع غزة، دون مراعاة أي اعتبارات أخلاقية أو سياسية تعترف بوجود الشعب الفلسطيني أو حقوقه الوطنية. شكل هذا التوجه شبكة أمان لحكومة نتنياهو المتطرفة في عدوانها الوحشي على قطاع غزة وارتكاب جيشها لجرائم حرب وإبادة جماعية.
استمر هذا التوجه حتى تفاقمت الخسائر الاقتصادية والبشرية، وتزعزع الأمن والاستقرار داخل الكيان. بالإضافة إلى ذلك، أبرمت حكومة الاحتلال اتفاقًا لوقف إطلاق النار مع حزب الله اللبناني، بينما فشلت في حسم المعركة في قطاع غزة، حتى بعد استشهاد يحيى السنوار في ميدان المعركة، والذي يُشار إليه باعتباره المسؤول عن معركة طوفان الأقصى.
هذا التراكم وعدم وجود أفق للمقاربة العسكرية للقضاء على حركة حماس أو إطلاق سراح الأسرى بالقوة، دفع الجمهور الإسرائيلي إلى التحول نحو وقف الحرب وإطلاق سراح الأسرى باتفاق مع حركة حماس، حيث تجاوزت نسبة المؤيدين لذلك الـ 80%، مما وضع حكومة اليمين المتطرف أمام ضغط داخلي متواصل ومتعاظم.
رابعًا: فشل المراهنة على الرئيس ترامب
لقد راهن نتنياهو واليمين المتطرف على فوز الرئيس ترامب في الانتخابات الرئاسية، بناءً على تجربتهم معه في دورته الرئاسية السابقة التي نقل فيها السفارة الأميركية إلى القدس، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وتبنى صفقة القرن الأميركية التي صُممت وفقًا لتصور بنيامين نتنياهو في حينه، والتي كانت تعني فعليًا حكمًا ذاتيًا فلسطينيًا تحت السيادة الإسرائيلية.
لكن الرياح لم تجرِ كما اشتهى نتنياهو واليمين الصهيوني بشأن غزة، حيث وضع الرئيس ترامب سقفًا زمنيًا لا يتجاوز الـ 20 من يناير/كانون الثاني من هذا العام، وهو يوم تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة. وأرسل مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي التقى نتنياهو وكان، وفقًا للعديد من المصادر الإسرائيلية والأميركية، حازمًا وفظًا مع نتنياهو، وطالبه بالموافقة على وقف إطلاق النار، وإلا فإن رفضه سيكون له عواقب وخيمة على إسرائيل. هذا الأمر حشر نتنياهو في الزاوية، واضطره مكرهًا للاستجابة والقبول باتفاق شبيه باتفاق مايو/أيار 2024 الذي رفضه سابقًا، لينزل بالتالي عند شروط المقاومة وحركة حماس.
تفسير موقف الرئيس ترامب يعود إلى قناعته بأن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها، ولن تستطيع القضاء على حركة حماس عسكريًا أو سلطويًا بعد أن أتيحت لها الفرصة الكاملة خلال 15 شهرًا.
بالإضافة إلى ذلك، ربما يرى ترامب في استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عائقًا أمام معالجة العديد من الملفات في الشرق الأوسط، مثل الملف النووي الإيراني، والتطبيع مع السعودية التي ترفض التقارب مع إسرائيل في ظل استمرار العدوان على غزة. هذا ناهيك عن رغبة واشنطن في التخلص من الاستنزاف والصداع اللذين تسببت بهما إسرائيل بفشلها في القضاء على حركة حماس أو كسر إرادة الشعب الفلسطيني، في وقت تتجه فيه أنظار ترامب نحو الصين والحرب في أوكرانيا، والسيطرة على جزيرة غرينلاند وقناة بنما، وضم كندا إن استطاع.
فشل ونجاح
من خلال مقارنة سريعة، يتبين أن الاحتلال الإسرائيلي بقيادة نتنياهو واليمين المتطرف قد فشل في تحقيق أهدافه. لم ينجح في تهجير الفلسطينيين أو احتلال القطاع، على الرغم من القصف الوحشي والتدمير والقتل الممنهج. كما لم يفلح في القضاء على حركة حماس عسكريًا وسلطويًا، ولم يستطع استعادة الأسرى بالقوة العسكرية. شاهدنا كيف أدارت حركة حماس تسليم الأسيرات الثلاث وسط مدينة غزة، بطريقة أذهلت المراقبين، من خلال التحكم والسيطرة وسط حشود كبيرة من الجماهير الفرحة، والظهور العسكري الكبير واللافت لكتائب القسام بزي موحد وسلاح وعربات جديدة وسط الدمار الهائل.
في المقابل، تمكنت حركة حماس منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار من نشر الشرطة التي قتل الاحتلال أكثر من 700 من منتسبيها خلال العدوان، ونشر قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية، والدفاع المدني وفرق البلديات في المدن لمتابعة شؤون الناس وفتح الطرق الرئيسية المغلقة، مع بدء دخول المساعدات لتوزيعها على كافة المناطق.
هذا يشير بوضوح إلى أن حركة حماس ما زالت تتمتع بحضور سلطوي مدني وعسكري مقاوم، وتحظى بتأييد واسع لدى الجمهور الفلسطيني الذي شكل وما زال حاضنة شعبية وفرت لحماس الدعم والحماية والشرعية.
وفي السياق ذاته، أظهر الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، رغم الألم والوجع والفقد، عزيمة منقطعة النظير وتصميمًا على الحياة، ليوجه رسالة قوية إلى المحتل والعالم بأن الفلسطيني لم ولن ينكسر، وأنه كما نجح في المعركة فإنه سينجح في إعادة الحياة إلى قطاع غزة رغم الكارثة التي صنعها الاحتلال الإسرائيلي بدعم من إدارة الرئيس بايدن.
وإذا كانت المعارك تُقاس بنتائجها وأهدافها، فيمكن القول بكل ثقة إن إسرائيل قد فشلت فشلًا ذريعًا، بينما نجحت حركة حماس والشعب الفلسطيني في معركة الإرادة والوعي على طريق التحرير والعودة.
تداعيات إستراتيجية
من أهم التداعيات التي أفرزتها معركة طوفان الأقصى، بعد الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني:
- لا نكبة ولا تهجير بعد اليوم، فقد تبددت أحلام التهجير أمام الصمود الأسطوري المثير للإعجاب للشعب الفلسطيني، الذي تشبَث بأرضه وتمسك بها رغم الإبادة والكارثة.
- حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية وحقه الثابت في تقرير مصيره هي حجر الزاوية للاستقرار في المنطقة، وبدونها ستظل المنطقة تعيش على صفيح ساخن.
- تعزيز إستراتيجية المقاومة في العقل الجمعي الفلسطيني بفضل الأداء الأسطوري والمذهل لكتائب عزالدين القسام وفصائل المقاومة في قطاع غزة المحاصر منذ ما يقرب من عقدين.
- تصدّع نظرية الردع الإسرائيلية، وسقوط أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وهذا سينعكس سلبًا على ثقة واشنطن والمنظومة الغربية في قدرة إسرائيل مستقبلًا على القيام بالمهام الإستراتيجية الاستعمارية، أو حماية مصالح المنظومة الغربية في المنطقة.
- سقوط السردية الإسرائيلية الزائفة أمام الرأي العام الدولي، كسردية الدولة المتحضرة التي تتمتع بمنظومة أخلاقية، وتدافع عن نفسها ضد وحشية الفلسطينيين والعرب المزعومة، وذلك بعد ارتكابها جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي وجرائم حرب وانتهاكها الصارخ لكافة القيم والقوانين الدولية والإنسانية، لتصبح دولة ملاحقة أمام محكمتَي العدل الدولية والجنائية الدولية بشخص رئيس وزرائها نتنياهو، ووزير حربها المقال غالانت.
- تفاقم الخلافات الداخلية في إسرائيل المحتلة، في أعقاب الفشل الذريع في تحقيق أهداف العدوان على غزة، والإخفاق في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتزايد الانقسام بين التيار الديني المتطرف والتيار الليبرالي الذي يخشى من هيمنة اليمين المتطرف على الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات البيروقراطية للدولة.
لا شك أن كل هذه العوامل ستشكل علامة ضعف واضحة في جسد دولة إسرائيل المحتلة داخليًا وخارجيًا، ونذيرًا ببداية النهاية لمستقبل بنيامين نتنياهو السياسي، الذي سيواجه أسئلة عصيبة بشأن المسؤولية عن هذا الإخفاق الإستراتيجي المريع.
في المقابل، سيتعاظم الإيمان إقليميًا ودوليًا بضرورة احترام حق الشعب الفلسطيني الأصيل في تقرير مصيره، وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي المنشود.